الأربعاء، 8 يونيو 2011

مسار أديب بقلم الروائي محمد مفلاح


مداخلة الروائي والكاتب محمد مفلاح في ملتقى (تحولات الخطاب السردي في الجزائر – الخطاب والتلقي) ليومي 25-26 أفريل 2011، بجامعة بمستغانم.


مسار أديب  
بقلم الروائي محمد مفلاح
في هذه الورقة سأحاول أن التطرق إلى بعض المحطات من مساري الأدبي، وسأغامر ككل الكتّاب للحديث عن تجربتي الإبداعية. وأشير أولا إلى البداية.. إلى فترة المراهقة التي تعلقت فيها بالكتاب ثم ملتُ فيها إلى ممارسة الكتابة. لقد بدأ اهتمامي بالحكي والقصص منذ أيام الدراسة وأنا طالب بمتوسطة محمد خمسيتي (فيكتور هيجو سابقا) بمدينة غليزان. ففي هذه المرحلة كان أستاذ اللغة الفرنسية يدرسّنا مسرحيات موليار، وراسين، وكوناي، وكانت تلك المسرحيات الفرنسية التي كنت أشتريها من المكتبة المحاذية للمتوسطة، تثير خيالي وتمنحني الطاقة التي ساعدتني على تجاوز هموم اليتم والوحدة.. فأنا فقدتُ والدي وعمري 11 سنة.. كما كان هذا الأستاذ الفرنسي الجنسية يوجهنا إلى مطالعة الروايات، غير أنني في تلك الفترة لم أكن قادرا على اختيار العمل الأدبي الجيد، إذ كنت أشتري من سوق المدينة الأسبوعي الروايات البوليسية، وكذا القصص المصورة مثل "بلاك لوروك"، و"طارتين"، و"زنبلا"، و"طرزان"..
ولكن التحول الحقيقي في مجال المطالعة كان يوم قرأتُ لأول مرة روايتين مهمتين في حياتي هما: رواية (البؤساء) لفيكتور هيجو التي استعرتها من زميل لي في القسم، ورواية (الحريق) لمحمد ديب التي عثرتُ عليها مصادفة بسوق المدينة، وقد تفاعلت كثيرا مع أحداثهما. لاريب أن الأجواء الواقعية للروايتين إلى جانب اهتمامي بقصص صفحة (دروب القصة)، أغرتني بمغامرة الكتابة فبدأت في تدوين محاولاتي القصصية الأولى وكانت كلها مستقاة من الواقع المعيش، جمعتها في كراسة وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وهكذا أحببتُ الكتاب وأصبحت لي الكتابة حلماً جميلاً تمنيت تحقيقه. لقد ولدتُ في أسرة لا تلمك أي كتاب في بيتها المتواضع، وبالرغم من ظروفي العائلية الصعبة فقد استطعت أن أوفر بعض المال لشراء الكتاب الذي تسلحت به طوال حياتي لمواجهة هذه الحياة القاسية.
ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، شرعتُ في إرسال تمثيلياتي إلى الإذاعة الوطنية التي أعدّت منها للمستمعين أكثر من عشرة أعمال. كما نشرتُ مقالاتي الأولى بمحلق (الشعب الثقافي) الذي كان يشرف عليه الروائي الكبير الطاهر وطار. وفي مجال القصة القصيرة، كانت مجلة (آمال) من أهم المنابر الثقافية التي احتضنت قصصي الأولى كما أصدرت روايتي (الانفجار) التي نلتُ عنها جائزة بمناسبة الذكرى العشرين للاستقلال، ثم نشرت لي فصلا واحدا من روايتي (النفس الأخير). لقد اهتمت مجلة (آمال) بإبداعات شباب السبعينيات والثمانينيات فبرزت أقلام جزائرية أصبح لها حضور قوي في الساحة الثقافية. وكانت كتاباتها تشجعني على مواصلة المغامرة الشيقة في عالم الكلمة. وهكذا شعرتُ وقتذاك بفخر الانتماء إلى عائلة الكتّاب والأدباء، ومرافقة جيل كامل من الكتّاب تعتز جزائر اليوم بنصوصهم الإبداعية. وأول القصة لفتت اهتمام النقاد والأدباء إلى اسمي، هي قصة (السائق) المنشورة في ملحق (النادي الأدبي)، وقد حملت عنوان مجموعتي القصصية الأولى.
في بداية هذا المسار، مارست الكتابة دون وعي عميق بالعملية الإبداعية. كنت أكتب حباً في الكتابة فقط، ثم أدركتُ فيما بعد أنها مسؤولية كبيرة. أما فيما يخص كتاباتي الإبداعية المنشورة إلى حد الآن فهي تتميز بمرحلتين اثنتين هما:
1- مرحلة "ما قبل أكتوبر 1988": وتشكلت فيها مرجعياتي من قراءاتي لكل الكتّاب الذين كانت مؤلفاتُهم متوفرة في المكتبة الجزائرية امثال محمد ديب، كاتب ياسين، مولود فرعون، مولود معمري، بوجدرة، بن هدوقة، وطار، جبران، نعيمة، المنفلوطي، العقاد، طه حسين، سلامة موسى، نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، حنا مينه، سارتر، كامو، استندال، بلزاك، دستويفسكي، تولستوي، تشيخوف، استنباك، فولكنير، دوس باسوس، هيمجواي الخ.. وهكذا وجدت نفسي أطالع النص الجميل ولكنني لم أهتم أبدا بالمدرسة التي ينتمي إليها كاتب هذا النص.
ونشرتُ في هذه المرحلة مجموعتي القصصية (السائق)  الصادرة سنة 1983، وأربع روايات جرت أحداثها في زمن الثورة التحريرية وهي: الانفجار، وهموم الزمن الفلاقي، وزمن العشق والأخطار، وخيرة والجبال، ثم روايتين اثنتين عن تحولات الثمانينيات هما: بيت الحمراء، والانهيار.   
2- أما مرحلة ما بعد أحداث أكتوبر 1988: وكنتُ أتولى فيها مسؤوليات نقابية، فقد اقتصر فيها نشاطي الأدبي على كتابة المقالة والقصة القصيرة فصدرت لي سنة 1991 مجموعة (أسرار المدينة) كما نشرتُ بعض قصصي في الجرائد الوطنية وصدرت ضمن مجموعة (الكراسي الشرسة). وبعد مخاض التعددية الحزبية وما أفزرته من توترات سياسية حادة، تملكتني الحيرة الشديدة كما خشيتُ أن أتوقف عن الكتابة أمام التساؤلات الغامضة وقد شعرتُ بأنني في حاجة إلى فهم الواقع المستجد بعدما فشلت في معرفته عن طريق الملاحظة فقط.. ولمواجهة هذه المخاوف والتساؤلات المحيرة شرعتُ في دراسة الواقع مستعينا بكتب التاريخ فقرأت مؤلفات ومخطوطات أنتجها كتاّب الجزائر في عهود سابقة عن عهد الاحتلال الفرنسي أمثال أبوراس الناصري، وابن سحنون الراشدي، وعبدالقادر بن مسلم، الصباغ القلعي، أحمد بن هطال، وبن عودة المزاري، وأحمد الشقراني، والعربي المشرفي، والهامشي بن بكار. كما قرأت عدة كتب في التاريخ والأنتروبوجيا لمؤلفين فرنسيين. لقد اكتشفتُ في هذا تاريخنا الوطني أشياء مهمة جدا لفهم هذا الحاضر الشائك والمتشابك. 
وقد عمقت هذه القراءات رؤيتي ودفعتني لمواصلة الكتابة، فصدرت لي في هذه المرحلة أربع روايات عن التحولات التي عرفتها البلاد خلال هذه المرحلة وهي: (الكافية والوشام) و(الوساوس الغريبة) و(عائلة من فخار)، و(انكسار). ثم ألتفتُ إلى التاريخ فأنجزت رواية عن تحرير وهران من الغزاة الأسبان، وضعت لها عنوان (شعلة المايدة). وهكذا خرجت من مرحلة الحيرة بفضل المطالعة المستمرة، إلى جانب دراسة الواقع المستجد والمواظبة على الكتابة.
أجل. لقد ملتُ منذ البداية إلى الكتابة الواقعية متأثرا بالروايات العربية والعالمية، ولا شك أن هذا الميل يناسب طبيعتي النفسية ويعبر عن توجهاتي الفكرية ورؤيتي الفنية، فالتزمتُ بهذا الأسلوب الذي أراه ملائما للتعبير عن عوالمي الخاصة، ومشروعي الثقافي. والواقعية في فهم كبار الأدباء هي الاتجاه الذي يعالج حقائق الحياة. وانطلاقا من هذه النظرة، أرى أن خصوصية الرواية الجزائرية منذ صدور (نجمة) وثلاثية محمد ديب، صنعها التاريخ الوطني والتراث الثقافي للجزائر. ورواياتي الأخيرة مشحونة بهذه الخصوصية المتميزة في نظري باستغلال الحدث الاجتماعي والظرف السياسي، والتراث الشعبي من غناء بدوي وشعر ملحون إلى جانب التاريخ المحلي والوطني. وتجري أحداثها في مدينة غليزان موطن الذكريات والأحلام الجميلة، ولكن بعد سفري إلى مدن أخرى ومعايشة هموم المجتمع الجزائري، لم تعد غليزان موطن الذكريات فقط، بل أصبحت نموذجا للمدينة الجزائرية التي تشهد تحولات عميقة وتطمح في التغيير.. ومازلتُ إلى حد الآن متمسكا باستقراري بمدينة غليزان لسببين اثنين مهمين للكتابة هما: الوحدة والوقت. فالكاتب الذي لا يدخر لنفسه الوقت الكافي لممارسة طقوس عزلته عن الآخرين، لن يستطيع انجاز أي عمل إبداعي.
وإذا كانت الكتابة تتطلب الوحدة والوقت الكافي، فكيف وفقتُ بين الكتابة ونشاطي النقابي والسياسي؟ حقا.. إن الكتابة لا تلتقي مع حركية السياسة كما لا تلتقي مع كل المهن والوظائف التي تدفع المبدع للنشاط العام والاحتكاك بالآخرين. ومن يقرأ تراجم الأدباء يجد فيها كل النماذج البشرية التي تخطر ببال الإنسان، منها نموذج الأديب الممارس للسياسة، ويحضرني هنا مثال فيتور هيجو الأديب والنائب والسيناتور واللاجئ السياسي، وهناك كتّاب آخرون انخرطوا في العمل السياسي ومع ذلك كتبوا أعمالا أدبية خالدة.. فلست حالة شاذة في هذا المجال، وما أنجزته من أعمال يعود إلى التنظيم، فالتنظيم مهم جدا بالنسبة للكاتب إلى جانب استعداده للعمل الشاق والتضحية بأشياء كثيرة في الحياة. فعلا.. إن الممارسة النقابية والسياسية أخذت مني وقتاً مهماً ولكنها أسهمت في تعميق رؤيتي الفنية، فمن يقرأ رواياتي الأربع الأخيرة (رباعية أكتوبر)، يدرك هذه الحقيقة.. لو لم انخرط في العمل النقابي والسياسي لظلت اهتماماتي قاصرة على هواجسي الذاتية ولغرقتُ في عالمي الخاص. 
وبعد حوالي أربعين سنة من ممارسة الكتابة، نشرتُ أعمالا إبداعية وكتابات أخرى بلغت إلى حد الآن إحدى عشرة رواية، وثلاث مجاميع قصصية، وثلاث قصص للأطفال، وسبعة كتب في التراجم والتاريخ والتراث الثقافي، ولي أعمال أخرى تنتظر مني بعض الصبر لتنقيحها. وبالرغم من هذا الجهد يتساءل بعض المهتمين بالأدب عن السبب الذي جعل اسمي غير معروف بالقدر الكافي، وللإجابة عن هذا التساؤل أقول إن السبب الأول قد يعود إلى استقراري بمدينة غليزان البعيدة عن المركز أي الجزائر العاصمة ومنابرها الثقافية والإعلامية. وأرى أن وضعيتي هذه يعيشها كل أدباء الأطراف الذين يعانون كثيرا من أجل التعريف بأعمالهم الفكرية والإبداعية.. ولا أنكر أن مهنة التدريس التي مارستها بمحبة، ثم نضالي في النقابة والسياسة، أبعداني كثيرا عن حضور الملتقيات والندوات التي كان ينظمها اتحاد الكتاب. غير أنه في السنوات الأخيرة، بدأ الاهتمام بأعمالي الأدبية، ويرجع الفضل في هذا الحضور إلى جهود النقاد والباحثين الجامعيين الذين يدرّسون الأدب الجزائري بكل تياراته الفكرية والفنية. وقد أسعدني مؤخرا التكريم الذي حظيت به في الملتقى الدولي الثاني عشر للرواية (عبدالحميد بن هدوقة) المنعقد في ديسمبر 2009، ولكن هذا التكريم زادني شعورا  بمسؤولية الكتابة.
فعلا لقد قدمت جهدا خلال مساري هذا ولكنني لم أبلغ الحد الذي أحلم به.
مستغانم 25 و26 أبريل 2011

ترجمة الأديب والكاتب محمد مفلاح
محمد مفلاح روائي وقاص وباحث في التاريخ، من مواليد عام 1953، يعيش إلى حد الآن بمدينة غليزان التي ألهمته كتاباته الإبداعية وأنجز بها كل أعماله المتعلقة بتاريخ وتراث منطقة غليزان.
- انتخب عضوا بالأمانة الوطنية لاتحاد الكتاب الجزائريين (1998-2001)، وأعيد انتخابه عضوا بالمجلس الوطني للاتحاد عام 2001.
- ومارس العمل النقابي (انتخب أمينا عاما للاتحاد الولائي بغليزان، وعضوا المجلس الوطني (1984- 1990)، ثم انتخب عضوا الأمانة الوطنية للاتحاد العام للعمال الجزائريين (1990-1994).
- برلماني سابق (عهدة 1997-2002 وعهدة 2002-2007) وتولى عدة مسؤوليات بالمجلس الشعبي الوطني منها نائب رئيس المجموعة البرلمانية لحزب جبهة التحرير الوطني، ونائب رئيس لجنة الثقافة والسياحة والاتصال.
وهو اليوم متفرغ للكتابة الإبداعية والبحث في تاريخ المنطقة وتراثها الثقافي.







الأحد، 1 مايو 2011

انتظروا المزيد قريبا إن شاء الله

انتظروا المزيد قريبا إن شاء الله

الكتابة بما تبقى بالذاكرة.. عبدالوهاب بن منصور



الكتابة بما تبقى بالذاكرة..
  عبدالوهاب بن منصور

ليس من السهل ولا الممكن أن أسترجع كل حدث. فطفولتي الأولى لا أذكر منها إلاّ جامع القرية الصغير والفقيه وليلة الرحيل.
فلا أحد يمكنه أن ينسى من عَلّمّه الحرف الأول حتى وإن ارتبط ذلك بقساوة عود الزبوج والفلقة وقساوة الطقس ببرودته وحرارته. فقيها أصير يحفظ كلام الله، نلك كانت أمنية الجدّة وهي تجرني إلى لحد جدي الذي لم أعرفه لأقرأ ما أحفظ.. لكن أبي كان يراني قاضيا ليمتلك قليلا من سلطة الأمر والنهي لكشف موت أبيه وعمه و..و..، أمّا أمي فلم تنظر إلي إلاّ طبيبا يطارد لعنة موت أبنائها الذكور دون الإناث..
بين الأمنيات الثلاث كان الموت يرافقني. يطاردني في باب تازة القرية الصغيرة المطلة على ندرومة من جهتها الشمالية ووجدة المغربية من جهتها الغربية، أما جنوبا وشرقا فجبال تحجب الرؤية. والسؤال عمّ وراءها، كان يفتح شهية قول وترديد الأساطير. لكن السؤال ظل معلقا إلى غاية ليلة الرحيل.
عائدان من المقبرة، أنا وجدتي، تتوقف سيارة القايد منصوري البيضاء. لا يكلف نفسه عناء التحية أو النزول. يمنح جدتي تلغرافا. تسأله عن فحواه، فيجيبها ببرودة لم أنسها بعد: ولدك العربي مات.
تسير السيارة في اتجاه مغنية غير مبالية. اظل جاثما على جسد جدتي الملقى على الرصيف من هول الصدمة. وقتها أدركت أن الموت مدركي. فكان السؤال وجوديا: كيف أقاومه؟؟.
في أربيعية عمّي يقرر أبي الرحيل من باب تازة إلى ندرومة وليس إلى مغنية مثلما جرت العادة عند أهل القرية. يقول مدافعا عن رأيه: أرض الله واسعة.. وهذه (يقصد باب تازة) لم أر فيها غير الشقاء والحزن ورحيل كل الأحباب.. وهذا (مشيرا نحوي) لا أريده أن يظل هنا ينتظر أجله.
في شاحنة بيضاء من نوع جي آ كا (JAK) ركبت بين السائق وأبي. اعتقدت لحظتها أني تركت الموت ورائي. آمنت بالخلود. لكن...
حين توقفت الشاحنة اكتشفت أن بيتنا الجديد يجاور مقبرة. مقبرة اليهود. صارت المقبرة ساحة لعبي ومكاني المفضل الذي أقضي فيه جل وقتي. عاشرت الموتى وجعلت من أضرحتهم الرخامية أَسٍرّة لنومي وسهري. وكان ضريح السيّد، كما كان يسميه أطفال الحيّ، مكتبا أدخله كلّ مساء، فأشعل شمعة من تلك الشموع التي تتركها النساء الزائرات له طلبا للأولاد أو العوانس طلبا للزواج، فأنجز تماريني المدرسية أو أقرأ ما وقع بيدي من كتب.
لا أنكر أن ما كان يعذبني وقتها عدم قدرتي على قراءة ما كان مكتوبا بالحروف العبرية على الشواهد. فرحت في لعبة صبيانية، أو هكذا تخيلتها، أقرأ أو بالأخرى أتخيل نصا لكل شاهد، حتى اعتقد أصدقائي أني فعلا أقرأ العبرية، واعتقدوا أن جنيا يهوديا سكنني.
كنت في السنة الرابعة ابتدائي، أي عمري 10 سنوات، حين أوقفتني جدتي أمام ضريح السّيد وقالت إقرأ ما هو مكتوب على الشاهد. فقرأت بكل هدوء: هنا ينام الشيخ السّيد يبارك زواره.. صرخت جدتي وبسملت. لقد صدقت أن جنيا يهوديا يسكنني. وبدأت رحلتي مع الفقهاء والزوايا لطرد الجني.
لا أنكر أني حملت تحت إبطي الأيمن حرزا غُلّف بالرصاص كي لا يتلف أكثر من خمس سنوات. كما أني نمت في أضرحة الأولياء كثيرا، وعرفت طقوس الكيّ والرقية وإبطال مفعول السحر، و..و.. حتى صدقت أنا الآخر أني مسكون.
وصار ضريح السيّد مكتب كاتب عمومي لمن أراد أن يكتب رسالة حب أو غرام.
عفوا، قبل ذلك نسيت أن أبي اكترى محلا تجاريا صغيرا، فكان يجلسني كل يوم خميس، أي يوم السوق الأسبوعية، على كرسي خشبي ويضع امامي طاولة صغيرة فأقرأ رسائل الزبائن وأرد عليها، ويمنعني أن أقبض شيئا منهم أو أن أفشي أسرار ما أقرأ أو ما أكتب. في الأيام الأخر أجلس في ضريح السيد أكتب رسائل العشاق وبالمقابل. وهي الحرفة التي امتهنتها حتى بعد أن رحلت لتلمسان.
 مرة أخرى عفوا، قبل تلمسان، أحب أن أقول أني كتبت الشعر، أو ما اعتقدت وقتها أنه شعر، متغزلا بحب فتاة كانت معي في المتوسطة، لكني صدمت حين أدركت أن الفتاة لا تعيرني اهتماما.. فما عدت للشعر معتقدا أن ما كتبته لم يؤثر فيها ولم يمارس سلطة الإقناع.. إقناعها بحبي.. فرحت منطويا على نفسي أفرأ كتب القصص والروايات وأحلم..
في تلمسان، كما في ندرومة، يشدني تاريخ المدينة وجمال نسائها. بين مكتبة الحزب، كما كانت تسمى ومكتبة المركز الثقافي الفرنسي كنت أتصيد العشيقات. عشيقات يقرأن ويناقشن. فقرأت كثيرا لأجلهن.. ولأجلهن أحببت أن أكون الإستثناء والمختلف. كثرت اهتماماتي فبعد الرياضة، وكنت لاعبا مميزا في كرة القدم وحارسا لكرة اليد ولجت عالم المسرح، فكتبت والحقيقة هي نقلت مسرحيات فكاهية أو لنقل بلغة وقتذاك تمثيليات ومثلت.. لكن الاستثناء والمختلف كان ينقصه شيء..
باختصار، قدت إضرابات عن الطعام بثانوية بن زرجب لتحسين ظروف الإقامة والمأكل للداخليين، فصرت ممثل الطلبة ومحرضهم..
في ربيع 82، قامت مظاهرات بتلمسان وبأغلب ولايات الجزائر احتجاجا على ما عرف وقتها بنسبة النجاح في البكالوريا، ودامت أكثر من أسبوع عاد بعدها الطلبة إلى الدراسة.. لكن الاستثناء والمختلف صار محرضا خطيرا مطلوبا من أجهزة الأمن..
كان لزاما علي أن أهرب. لكن إلى أين؟. فلم أجد إلا امرأة عشت رفقتها ما يقارب السنة في ماخور. ولكم أن تتخيلوا ذلك..
لا أنكر أني كرهت النظام كرهي لرفقاء استغلوا جهلي  وحماسي.
وبعد أن كرهت حياة المجون، بحثت عن نفسي. عن بدويتي الضائعة بين شوارع تلمسان. عدت إلى ندرومة ولم أحقق الأمنيات الثلاث، لكني اعتقدت أني سأحقق أمنيتي. فانخرطت في جماعة الإخوان.
خوانجي. لم أتخيل نفسي كذلك. فلم يطل مفامي عندهم رغم أني صرت محدثهم. تصادمت معهم كثيرا حول الموسيقى والمسرح والأدب عموما.
في جانفي 91، أخرج هاربا من قسنطينة بعد مشاركتي في ملتقى أدبي. لم تعجب المنظمين قصصي فأحلوا دمي. وفي نفس السنة يتكرر نفس الموقف في الجزائر العاصمة. فأعود إلى ندرومة وأنعزل. أنعزل بجسدي. ليس خوفا من الموت، ولكن لا أحب أن يذهب دمي هباءا. أشهر بعد الحادثتين تمنحني الجاحظية الجائزة الأولى عن قصة بصمات.. المدينة.. الحلم..
في سنة 93 أتحصل على الجائزة الأولى عن الشروق العربي، عن قصة في ضيافة إبليس. وهو نفس العنوان الذي سأختاره لمجموعتي القصصية والتي ستصدر سنة بعد ذلك عن قصر الثقافة والفنون بوهران. كان الإصدار تحديا بالدرجة الأولى.
خلال هذه السنوات سأربط مع وهران علاقة خاصة. حميمية، لكن الاغتيال المفاجئ لصديقي بختي بن عودة سيضطرني للانعزال بجسدي من جديد، بعد أن كنت قد بدأت كتابة رواية قضاة الشرف بمنزله بحي سان شارل ذات ليلة ممطرة. الرواية التي ستأخد منعطفا غير ما كنت أتصوره بعد الاغتيال. والتي صدرت عن اتحاد الكتاب في ديسمبر 2001 رغم أني انهيت كتابتها في سنة 96، والتي ترجمت سنة بعد ذلك إلى الفرنسية ثم ترجم معهد غوته الألماني مقاطع منها في كراسات ليقدمها للتعريف بالأدب الجزائري خلال معرض الكتاب الدولي لفرانكفورت سنة 2003. 
في فيفري 2006 أصدرت رواية فصوص التيه. وهي الرواية التي أرهقتني كثيرا، لأني أردت أن أقدم عملا متميزا. عمل يجمع بين القاموس والفضاء الصوفي. فكانت رواية المدينة/ ندرومة بتاريخها الشفوي والمكتوب، وطقوسها المقدسة والمدنسة..
هل قلت عن حياتي كل شيء؟.
لا أظن ذلك. فما خفي كان أعظم.
وهل ما كتبته إلى حدّ الآن يعبر عمّ عشته وما رأيته أو على الأقل يذكره؟.
إن الكتابة تحاول دوما تبرير وجودها، فتحاول ملء ما قد يبدو فراغا وتقدّم صورة قد أنشأتها من الواقع بعد تزييفه وتحريفه أو حتّى محوه. فالكتابة، وهي الصّورة المُنشَأة من أصل محكوم بالتغير ثم الزوال، ليست حالة، كما يرى كثيرون، إنّما هي ميثاق، أو تراض حسب بارت، بين تذكر وحرية أو بتعبير أدق لحظة حرية. فهل الكتابة كما الحرية لحظة؟. الحرية هي لحظة الاختيار. اختيار نوع الكتابة. وبعد.. إنّ سلطة المرجع والمجتمع(أو الواقع الاجتماعي) هي التي تحدد بشكل أو بآخر كيفية الكتابة وما تحويه.
فالمرجع، أوالمرجعية المعرفية، هو المرتكز الحيوي الذي يدعم الكتابة أو يكون الدافع الأساسي أو المحرض لعملية الكتابة التي يُقصد من ورائها إنتاج رؤية معرفية أو فنية معينة. فالمرجع هو مجموعة القيم والمفاهيم الفكرية والعلاقات الاجتماعية الثقافية والنفسية..التي تشكل الهوية المعرفية للكتابة. إنّ هذه القيم والمفاهيم والعلاقات، هي التي تؤثر كأداة معرفية في تشكيل الكتابة، وبعضها له ارتباط وثيق بالواقع الاجتماعي للكاتب/ مُنتج الكتابة/. واقع يساهم ويؤثر في رؤى الكاتب ويحدد خلفيته الذهنية وهويته المعرفية. فالكاتب مهما حاول تحرير كتاباته من كلّ سلطة، فإنّه يظل أسير، كما يرى بارت، كتابات الآخرين وحتّى كتاباته.
فالكتابة أثر يتعذر محوه لها سلطة المقاومة. مقاومة الزمن وتقادمه. مقاومة النّسيان بكل معانيه. ففكرة الحلاّج (القرن الرابع الهجري) متداولة حتّى اليوم، فلم يمنع صلبه من محوها، وتبنّى الكثيرون أفكار المعرّي رغم عزلته وخلوته، وبن رشد يعيش بيننا بعقلانيته رغم حرق كتبه..
ولأنّ الكتابة لها القدرة على الثبات والاستمرارية، فتصحيح الأفكار أو تغييرها (الثابتة والمستمرة كتابة)، لا يتمّ بسلطة غير سلطة الكتابة. سلطة موازية. مضادّة.
لكن محاولة نقل الواقع وتصويره تنتج نصّا مشوها ليس هو الواقع وليس نسخة [طبق الأصل] منه. فالمرآة تعكس صورة، فهي ليست واقعا [حقيقة]  وليست خلقا. والروائي هو من كسّر المرآة [الأصل] شظايا ثمّ قام بتشكيلها وفق الشظايا المتوفرة. إنّ المرآة [المشكلة] هي واقع جديد ومختلف رغم محاولات التشابه والتقابل والمقارنة.
فالكتابة الروائية أو القصصية، على الأقل بالنسبة لي، ليست إعادة إنتاج الواقع، إنّما هي ولوج لعبة [جميلة] بين الواقع والتخييل. لعبة فنّ الكذب وتزييف الحقيقة وتخطي عتبة الخوف. الخوف من الموت. هي كتابة في الظلام وخارج النموذج.
إنها كتابة بكل بساطة مقاومة الموت. أو أقوى من الموت مثاما قال ستاندال.

كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان - للروائي الحبيب السائح


كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان

الحبيب السائح
روائي
لم يسبق لنا أن ارتبكنا مثلما حدث لنا ذلك ونحن نحس قناعاتنا ويقينياتنا تهزها من جذورها حركاتٌ اجتماعية احتجاجية لم نتوقع هديرها بتلك الدرجة من المطْلبية التي لم تطرحها يوما كتابتنا؛ إلا تلميحاتٍ أو صورا للأوجاع أو استعارات للحنين.
لِم لَم نستشرف؟ وما الذي خرّب مجساتنا حتى لا نتحسس نبض واقعنا؟ كيف تظهر تلك الاحتجاجات صاعقة كتابتنا كلها؛ وكأنها هي أيضا إرث آل إلى المنظومة المتهرئة التي وجب تغييرها؟
لنقلْ، بلا خجل، إننا كنا مطمئنين إلى عالم أنشأناه من أنانيتنا ونرجسيتنا كبديل عن ضعف مقاومتنا لردات التغيرات العنيفة. لذلك وجدنا أنفسنا مسلوبي القدرة على قراءة ما جد.
من ثمة حيرتنا أمام إيجاد خطاب ملائم. لا بد أن يمر زمن قبل أن نستعيد السيطرة على ارتباكنا. وحينها قد نكتب عما وقع بصفته حدثا مابعدياً؛ لأننا لم نكن من الفاعلين المباشرين فيه. ولا بد أن تبكيتاً سيلازمنا خلال كتابتنا اللاحقة.
فمن المفروض أن يؤهّل التاريخُ الجيلَ، الذي ستظهر إسهاماته الإبداعية والفكرية كنتاج لما وقع، لأنْ يكون في انسجام مع ما سيكتبه عن ثورته. ولن يكون ذلك سوى مجرد إنصاف له. فهو وحده الجيل المؤهل لأن يبعث اللغة الجديدة التي تنتج الاستعارة الجديدة والمعنى الجديد؛ أي الخطاب المختلف مرحليا والمفارق نموذجا.
وكم سيكون أثر ذلك وازناً إذا ما انتهت الثورة الجديدة إلى الخطوة الأولى في إحداث التحولات الجذرية المنتظرة. فثورة من أجل الديمقراطية ليست هي بناء ديمقراطية، في ظل دولة القانون والحق والعدل، نظرا إلى المدة الزمنية التي يتطلبها ذلك البناء.
فقليل منا، بالتأكيد، من سيتمثّل التغيّر. وسيجد الكثير منا أنفسهم عاجزين عن إعادة صياغة مشروع كتابتهم بناء على الأسئلة الجديدة. حدث ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي مع خطاب زال تماما بانهيار المشروع الاجتماعي الذي كان يحمله. وللأسف، لم يَخْلفه غيره البديل والأرقى. فراحت كتابتنا إلى التشرذم؛ تعبيرا عن الضياع الذي أعقب. واستمرت عليه إلى بداية هذه العشرية الثانية من هذا القرن غير قادرة على إنتاج خطاب لها موسوم بخصوصيتها؛ برغم جميع النوايا المعبَّر عنها، في هذا النص أو ذاك، عند هذا الكاتب أو ذاك، من هذا الجيل أو ذاك.
يمكن الجزم بأن كل شيء لن يكون كما كانت عليه علاقتنا مع الكتابة. ذلك أن تحولا بدأ يتشكل في مزاجنا؛ نظرا إلى انثيال الأسئلة الوجودية الطارئة. لا بد أن دلالات جديدة تنتظر أن تتلبس بها كتابتنا عن الحياة والموت والحب والجسد والوطن والتاريخ والدين والسياسة والأمكنة. فهل سنملك لها النفَس والإرادة والخيال لنؤسس بها خطاب حداثتنا؟     
فبأي لغة، بأي تكنيك، وبأي حبكة، ننشئ ما صارت النار ترمز إليه بعد أن أخرجها إنسان عربي عن وظائفها السابقة كلها وعن طقَسيّتها إلى هذه الوظيفة الجديدة: التحافها لإحراق اليأس المزمن في الذات؟
يا للدلالة التراجيدية التي حفرها البوعزيزي في رخامة تاريخنا!
ستتبدل الكلمات غيرَ الكلمات وملامح شخوص رواياتنا ونفسياتهم ومصائرهم، التي لن يكون في وسعها إلا أن تبلغ الذروة الدرامية؛ علها تلامس مشهدية شاب عربي في مظاهرة احتجاج من أجل حريته يتهاوى لرصاصة تستقر في قلبه.
«ولكن، من أين لنصنا الروائي بِحبْل سُري ـ كنا قطعناه بأنياب خيباتنا ـ يتغذي بواسطته من هذا الواقع الذي جدَّ "فجأة" بفداحة ذاك الغضب والإصرار والشك؟ واقع، لا محالة، سيؤجج أحلامنا. فإن ما قُوّض فينا كان من الجسامة بحيث يحتاج إلى زمن أعمارنا لإعادة ترميمه؟
«فما الذي نُخيّله، إذاً، من حياة أصبح تعبيرها المأسَوِي، عن كسر قيد المهانة، أقوى من كل تخييل؟ وأي حوارية بعد اليوم بين الأنا والآخر، تناصاتٍ، أو مقابساتٍ (بتحديد السعيد بوطاجين)؟
«وما ذا ستكون عليه مقاربات النقد بعد انهيار جدار "الحيادية" بدعوى "العلم"؛ وكأن العلوم والمعارف الإنسانية ليست هي مفاتيح أبواب عوالم الإنسان الذي ينتج الأدب ويستهلكه؟ وأي المناهج سيعاد توظيفها لتتوافق مع القراءات التي تؤوِّل الخطابات الجديدة التي أخذ الواقع الجديد يفرزها؟
«كل شيء سيهاجر. كل شيء سيكون تغيّر إذاً. وحينها، لا بد أن لغتَنا ـ جميع لغاتنا ـ العادية ستُمْسي قاصرة عن تمسية ما يتحوّل، عاجزة عن نقله من محسوسه كما من مجرده إلى درجة استيعابه؛ إن هي ظلت على تحفُّظها تجاه أشكال الرقابة كلها. إنها الحال التي قد تعيشها كتابتنا إن ترددت في إعادة قراءة نفسها على ضوء النار الجديدة.
«ها هي الحركية أتت من حيث لم يعلم المثقفون والكتاب. وها هم يستيقظون على دهشتهم فيحاولُونَ فهْم ما وقع. وها هم سيغدون متأهبين إلى النزول من أبراج أوهامهم ليأخذوا من شعوبهم شرارة دلالة الكتابة عن العدالة والحرية والديمقراطية.
«وها هو سراب العدمية، الذي كانت كتابَاتُنا دخلته لاجئة من اغترابها اليومي تحت قهر السياسي، ينجلي عن واقع التهمت فيه نار الانعتاق آخر جدار كان يسمى الخوف.
«ولأن التاريخ، بفضل وسائط الاتصالات الرقمية، صار ينْكتب تزامنا مع وقائعه، فإن الرواية ستحل محله؛ لأنها ستتكرس كفعل مَابَعديٌّ. وهنا سنوحٌ باهر للسرد الروائي الجزائري، والعربي بالتأكيد، أن يعيد تَحيين نفسه لاستيعاب الثورة الجديدة.»*؛ لأن كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان.
ـــــــــــــــ
*  ما بين ظفرين مقتطفات من مقالة لي نشرت في ملحق "الأثر"، جريدة الجزائر نيوز، يوم 08 فيفري 2011.

اعترافات كاتب في الخيال العلمي - فيصل الأحمر/ جامعة جيجل -



اعترافات كاتب في الخيال العلمي
فيصل الأحمر/ جامعة جيجل



* الخيال العلمي عندي مغامرة في الكتابة أكثر من كونه نمطا محددا محصورا بالتعبير عن هواجس الغد القريب المتربصة بإنسان اليوم نتيجة لما يعتور العالم من تطور علمي، و من تبدل لأحوال الحياة.
    الخيال العلمي مغامرة في الكتابة بسبب إمكانيات الكتابة الكثيرة التي يمنحها للكاتب من المنطلق الأول الأصلي الرئيسي للخيال... أليس الخيال في تعريفه القاعدي هو تفكيك للواقع إلى قطع صغيرة ثم إعادة تركيبه حسب استراتيجيات معطاة ؟
    في إنجلترا، و بدءا من ستينات القرن 20 ، أطلق جماعة الطليعة الأدبية آنذاك قراءة جديدة للتسمية الاختزالية SF ، قرأوها Speculative Fiction بدلا من Science-Fiction ، فصار الخيال العلمي دالا على الخيال الافتراضي .
    إن الافتراض (أو المضاربة ) Speculation هي فعلا ما يفعله كاتب الخيال العلمي إذ يأخذ معطيات حاضرة ، فلسفة ، عقيدة ، اتجاه سياسي ، هاجس بيئي ، إنذار بكوارث طبيعية ، بحث علمي ... الخ ، ثم يغزل بالاتكاء عليها قصة يحاول توقع ما سيحدث لو أن ما يعتمل في " الحاضر " قد تحقق ، لو أن الخطر حل ، لو أن المحاولة العلمية قد نجحت ...

* في روايتي الخيال العلمي الأولى ( منشورة مسلسلة في جريدة " العالم الثقافي" 1997 ) تصورت عالما مقسما إلى ثلاثة كواكب ، أمريكا ، تشاينا و " إسلاميا " ( و هو عنوان الرواية ) ، و نحن اليوم ، بعد سبع عشرة سنة من كتابتها نعيش وضعا شبيها بما تخيلته ، لقد كان شعوري بالممانعة الآتية من الشرق قويا آنذاك ، و كانت التحولات الإقليمية كلها تشير إلى ظهور قطب أوروبي جديد ( الرواية مكتوبة عام 1994 ) ، و مع ذلك فقد بدا لي أن دور المشرق ، سواء الصين أو الدول الإسلامية سيكون أهم من دور أوربا، والعالم اليوم يصادق على رؤيتي .
     إن الأدب – كالسياسة – هو فن الممكن ... و الخيال العلمي يمنحنا إمكانية الإطلالة على ممكنات الفكر و اللغة و الجمال .

* روايتي الخيال العلمي الثانية ( و هي قيد الطبع في دار الألمعية ) مكتوبة عام 1997 وفيها اتجاه صوفي قوي جدا ، إنها رحلة في الفضاء الخارجي بحثا عن الذات .
    لقد عملت ثقافتي الصوفية على رسم خطوط الرواية ، إذ أن المتصوفة يؤمنون بالرحلة الداخلية ، و بأن العروج في معارج القدس الأعلى يؤدي إلى الغوص في مدارج النفس الأدنى إلينا ...
    في الرواية أيضا حضور بيئي شديد الإصرار على الدمار الذي تحدثه التكنولوجيا في الطبقات الدنيا لحياتنا، الأرض، الطبيعة، الحيوانات الهشة، النباتات التي لا نلمس فائدتها بمنطق السوق !... و لم أذهب بحثا عن كل هذا إلى التيارات السياسية " الخضراء " والمنظمات العالمية للدفاع عن البيئة بل اكتفيت بالعودة مرارا إلى منطقتين ريفيتين إحداهما منها أصولي ( دوار أولاد علال بجيجل ) و الثانية فيها جل مراحل حياتي       ( مدينة "الميلية" شمال ولاية جيجل ) ... فكانتا مصدر إلهامي الأول.

* الرواية الموالية ، و التي أعدها أكثر أعمالي الخيال العلمي اكتمالا هي " أمين العلواني" ( كتبت بين 1999 و 2001 و نشرت عام 2007 بدار المعرفة ) ... و هي رواية جمعت أشتاتا كثيرة من فنون القول ( المذكرات ، البيوغرافيا ، الشعر ، التسجيل بالكاميرا ، المنتخبات الأدبية ، القصة ، الدراسة النقدية ...) و كل ذلك في إطار ترجمة لحياة كانت ستعيش في المستقبل هو المدعو " أمين العلواني " إنها رواية تأملية فلسفية تنظر في جوهر الأدب و الفن ، و القدر ، في الصلات المعقدة بين النص الأدبي و التاريخ، الإنسان و الكلمات ، و تتأمل كثيرا في وظيفة الأدب التي يبدو أنها اهتزت بقوة في القرن 20.
     هي رواية تجريبية لأنها تحتوي لعبا بالكتابة، بالأفضية الطباعية بقواعد الكتابة الروائية ، و بكثير مما درجنا على عدة قواعد لكتابة الرواية لا تتبدل و لا تتحول …
" أمين العلواني "بالنسبة إلي تعبر عن الإمكانيات الكبيرة للتعبير الأدبي التي تمنحنا إياها كتابات الخيال العلمي ، إنها دفع للأمور إلى حدود بعيدة ، حاولت من خلالها إثبات القدرة الكبيرة لهذا النوع المنفتح بالضرورة على التجريب لكونه موجها مبدئيا صوت الغد  المقبل الآتي … أليس الخيال العلمي في عرف كثير من الناس هو أدب المستقبل ؟ إنه كذلك بالمعنى الحقيقي و المعنى المجازي " أمين العلواني " منحتني إمكانية التلاعب بقواعد التخيل البسيطة أو القاعدية ، فقد تخيلت في مقطع ما من الرواية أن الشخصية الأدبية المسماة "أمين العلواني"  ستجد كتابي حولها و تقرؤه ، ثم جعلت أتصور ردود فعلها إزاء كاتب يرسم حياتها بأدق التفاصيل ، ثم قبلت أنه ربما سيثيره ذلك الكاتب الذي رسم حياته فيبحث عن أسراره و يكتب حول تجربة ذلك الكاتب المغمور الفاشل المسمى " فيصل الأحمر " و أنشأت لعبة مرايا كبيرة جدا يحاور من خلالها كل كاتب من الاثنين صورة الآخر في زمن آخر ، مع تعليقات السارد ، ذلك الشخصية الكبيرة المسماة هو، والتي أعطيتها أنا اسما في روايتي و جعلتها هي المؤلف الحقيقي لسيرة أمين العلواني

 

 

*  أنقل الآن مقدمة الرواية لان فيها إضاءة لما وددت القيام به، وما حرك العمل كافة:

(   فاتحــــــة


أن تكتب رواية خيالية علمية معناه أن تواجه الواقع وألا تهرب منه أبدا معناه أن تكون حذرا لأن الواقع في خ.ع  متحرك دائما، حقيقي، ينبض حياة كثيرا ما عانى الواقع من الجمود وفقدان القدرة على الإعراب عن نفسه تحت أقلام الروائيين "الواقعيين " إنه واقع فوتوغرافي والصورة الفوتوغرافية تستطيع أن تكون كل شئ ما عدا واقعا فالواقع طبقات من الأشياء المحسوسة ودرجات من الوعي بالشيء نفسه وطرق عديدة لتأويل ما تلتقطه الحواس ويعيه العقل والأدب الواقعي عاجز عن ترجمة هذه الأشياء
إن هـذا هـو ميـدان روايـة الخيـال العلمـي.
كان نيتشه يتحدث عن " تعدد الحقائق " رادعا ثقة  " مرحلة الأنوار " في الوعي بالمحيط وثقتها في قدرة العقل على إدراك الجواهر كلها من الميتافيزيقا إلى المحسوسات المختفي معناها بشكل ما ونتحدث اليوم عن "تعدد الواقع " هل الواقع ما نظنه نحن واقعا ؟ هل الواقع ما نعيشه في اليقظة أم أن اليقظة حالة غير حقيقية نغوص فيها متى استيقظنا من النوم الذي يكون بذلك الواقع الحقيقي غير المخدوع ولا المخادع ؟ أم أن الواقع ما يراه ويعيشه السكران أو المريض المهلوس أو المخدر ؟ وما هو الواقع " الواقع " عندما يعيش مجموعة من الناس وضعية واحدة ويعيها كل منهم بطريقة ؟ من من هؤلاء الواعين يعي الواقع في حين يكون الآخرون مخطئين في حسبانهم؟
الخيـال العلمـي هو الوحيد الكفيل بإجابة هذه الأسئلة
أن تكتب رواية خيالية علمية معناه أن تتحلى بشجاعة وجرأة معينة لان ما يتخيله الواحد منا حول شكل المستقبل غالبا ما يأتي المستقبل ليظهر سخافته وضعف مخيلة صاحبه والعزاء الوحيد للكاتب الذي يصبح مضحكة هو أنه غالبا ما يكون ميتا غارقا في واقع البرزخ وما بعد القبر من واقع ! !...
ألا يكون الواقع هو ما ينتظرنا بعد الموت وتكون الحياة كلها حلما أو لعبة خيالية تدور أحداثها على ارض خيالية اسمها "الأرض " مثلا ؟
أن تكتب رواية خيالية علمية معناه ألا تنتظر اعتراف المحيط بلا مباشرة لان هضم القراء والنقاد لروايات الخيال العلمي منذ قرابة القرنين هضم عسير في أغلب الأحيان إذ أنه قلما نالت رواية خ. ع جادة اعتراف القراء والنقاد مباشرة والعزاء الوحيد هنا أيضا هو اللذة التي يجدها كاتب هذا النوع وهو يكشف عن واقع مخيلته، وتصوروا تلك اللذة وأنا أفتح بوابة دماغي على الواقع الوحيد الموجود فيه، الواقع الذي لا يعرفه أحد سواي، الواقع الذي ظل خفيا حتى تسنى لي أن أطلع عليه الآخرين، الواقع الذي أجتهد وأتلذذ بكتابته ووصفه وسرد حيثياته قطعة قطعة، وطيلة عام أو عامين من الكتابة وأنا أخرجه إلى أن يأخذ شكله النهائي الذي هو هذا الكتاب !
ربما يوجد عزاء آخر هو الطمع في المجد (ألم يسمها أرسطو "غريزة المجد "؟)
أن يعمل الكاتب في صمت، أن يجتهد أن يكون وفيا لرؤاه، أن يخترق المحظور ويتجاوز الحدود التي يراها خرقاء حمقاء أن يكون صادقا مع نفسه ومع الآخرين أن يحب عمله ويحب الآخرين ويكتب وهاجسه الوحيد التوصيل لأجل التواصل مع أهله (مع أهله مرتبين من عائلته وأهل بيته إلى القارئ الافتراضي الذي قد يكون في اليابان وبعد قرنين أو ثلاثة من الزمن).
أن تكتب رواية من الخيال العلمي أخيـرا- معناه أن تكون من المجانين الذين يتخلصون نهائيا من الجاذبية ومن سلطة أنساق المجتمع العاقل، وأنظمة المنطق، وواجبات الاتجاه السياسي، أن تجيد السير إلى الخلف مثل إبراهيم رمضان(بطل قصتي "المجنون" من مجموعتي خ.ع "وقائع من العالم الآخر-الصادرة عام 2002)، وألا تكون حريصا على المحاباة والوصول وإرضاء المقربين، وألا تحترم إلا الحق، الحق الذي يقف متحديا للباطل منذ بدء الخليقة دون هدنة أو اتفاقيات مربحة ودون إدبار أو بحث عن أرضيات مشتركة وحلول وسط تمسك بالعصا من وسطها.

 

ماذا عن "أمين العلواني" ؟

أمين العلواني مولود وحي يرزق وأحداث حياته أمامك في الكتاب مالك الأديب موجود وهو كاتب سيرة أمين العلواني الأديب المشهور والدليل على ذلك الكتاب الذي بين يديك
وأمين العلواني يترجم لحياة كاتب قديم مشكوك في قيمته الأدبية هو فيصل الأحمر وهذا الشخص أيضا موجود واسمه على غلاف هذه الكتابة /الرواية/السيرة/الترجمة/الدراسة/التأريخ وكل الدلائل تدل على أنه موجود
فيصل الأحمـر كتب كتابـا عـن أمين العلواني مع مطلع القرن الحادي والعشرين أي قبل ميلاده
أمين العلواني المستقبلي يشبه أمين العلواني الماضوي وهذا الأمر ليس محيرا على عكس ما يقوله مالك الأديب الذي سيأتي بعد أمين العلواني بنصف قرن تقريبا والدليل هو ما تقوله ترجمة مالك الأديب عن الشخصين (أمين العلواني /الرواية وأمين العلواني المؤلف ذائع الصيت)
وفيصل الأحمر موجود في نهاية القرن الحادي والعشرين بفضل كتاب أمين العلواني عنه، وذلك ما يؤكده مالك الأديب (كاتب سيرة العلواني )
ومالك الأديب هو شخصية قديمة لرواية كتبها فيصل الأحمر مع بداية القرن الحادي والعشرين
إنها أشياء تشبه الخيال العلمي
فلنرجئ الكلام عنها إلى نهاية هذا الكتاب الذي كتبه فيصل لا الذي كتبه هو مالك الأديب وهو لا أغلب ما في الكتاب أعمال من تأليف أمين العلواني الذي هو بطل ترجمة مالك الأديب التي هي رواية لفيصل الأحمر الذي هو بطل لكتاب لأمين العلواني الذي هو بطل لكتاب لمالك الأديب الذي هو بطل رواية فيصل الأحمر كما هو وارد في ترجمة للعلواني كتبها مالك الأديب الذي أوجده أول مرة فيصل الأحمر الذي هو



* ولي كذلك مجموعة قصصية عنوانها " وقائع من العالم الآخر ( صدرت عام 2003 عن منشورات إبداع ) ، و هي أقاصيص من الخيال العلمي طبعا تميل إلى التجريب مع تناول الموضوعات الشائعة في ميدان الخيال العلمي كالسفر في الزمن و الأبعاد العجائبية، و آثار البحث العلمي المجنون، و التصورات الكارثية للعالم في ظل التطور الحالي، ... مع حضور قوي للهواجس الفلسفية التي تسكنني ككاتب لا يستطيع الامتناع عن التفكير ... هواجس مثل : دور الإرادة، إرادة الحرية، الإنسان و ضرورة التسامي العبقرية وإطارها الاجتماعي ، القوة المطلقة في يد الإنسان المحدود بغرائزه، الجنون، الأزمات الوجودية وصلتها بضرورات المجتمع ، الصراعات على القوة و السيطرة و ما شاكل ذلك .   
* من المحطات الهامة في مسيرة الخيال العلمي التي خضتها اشتغالي النقدي، وخصوصا ذلك الذي كان على متن الصحف في الفترة بين 1992 و 1998 ، و هي فترة اعتقد أننا؛ مجموعة من الأصدقاء المتحمسين وأنا، بحثنا وعملنا بجد على تذليل صعوبات النوع على القارئ الجزائري ، لقد كان الخيال العلمي يدخل البيوت عن طريق جرائد واسعة السحب ، و كنا مكثرين بحيث أنه يندر أن تخرج صفحة ثقافية أو أدبية أسبوعية دون أن تكون فيها إشارة إلى مقابل ، أو تعقيب أو نقد ، أو رد ، أو رد على رد ، أو قصة من الخيال العلمي أو قراءة نقدية في قصة أو حوار أو ترجمة لأقصوصة أجنبية أو ترجمة لمقال تعريفي ...كل ذلك بكميات كبيرة ، و بمستويات متفاوتة ، متراوحة بين الصرامة الأكاديمية و تذليل المعارف المتماشي مع قراء الجرائد واسعة السحب .
    انتهى الأمر بإنشائي لجريدة " العالم الثقافي " (1996 – 1998) أين خصصت ثلاث صفحات كاملة ثابتة لحلمي القديم ( الخيال العلمي ) صفحتان تحت عنوان ( فضاءات الخيال العلمي ) و الصفحة الثالثة لنشر روايتي الأولى ( إسلاميا أو الكوكب الفاضل ) ، و هو شيئ لم يسبق له مثيل في الصحافة العربية .
أعتقد أن ثورة الشباب تلك لعبت دورا كبيرا في فتح الأبواب و توسيع الآفاق الدراسية و أنه لولا تلك الفترة التي عبرت بشكل ما عن المقاومة الثقافية للإرهاب و التيارات الظلامية التي كانت سائدة في البلاد ، لولا كل ذلك لما رأينا اليوم رسائل دكتوراه تنجز حول الخيال العلمي الجزائري .

* لن أمر إلى الأمام في شهادتي هذه دون التوقف عن ترجمتي لرواية ( عالم جديد فاضل BRAVE NEW WORLD) للانجليزي ألدوس هكسلي و هي من التحف الأدبية العالمية ، و قد ترجمتها باكرا ( 1992) ثم أعدت تنقيح الترجمة مؤخرا لكي تنشر عام 2009 ( عن دار بنابي ) في حلة أنيقة ...
    إنها رواية تنتمي إلى ما يسمى باليوطوبيات المضادة ، أي تلك اليوطوبيات التي ترسم صورا قاتمة حول المستقبل منبه إلى ما يحدق بالبشر من خطر إن ساروا في بعض المسارات المغطاة .
   هي رواية كثيفة المعاني ، تعكس جيدا الذهن الثاقب للفيلسوف الأديب الذي ألفها (ألدروس هكسلي) بثقافته المذهلة ، و قدرته الثاقبة على اختراق المعاني ، و دقة التصوير و طرافة التخيل .

     شيء كالخاتمة:
لا أدري أن لي تجربة كافية للخروج بخلاصات، إلا أن هنالك مسيرة يبدو أنها ستكون طويلة بسبب ضعف حظ أمتنا من العلم و المعرفة و الثقافة العلمية و من الحرية و الجرأة على التفكير ... و هي كلها محاور رئيسية تدور حولها كتابات الخيال العلمي .

ملخص مداخلة الدكتور: السعيد بوطاجين


الكتابة والتجنيس
للدكتور السعيد بوطاجين



معهد اللغة العربية وآدابها

المركز الجامعي بخنشلة 

  يبدو لي التجنيس إحدى طرائق تأثيث الخطاب القصصي ليغدو أكثر تعبيرا عن الموضوعات السردية من حيث إنه إحالات صريحة أو مضمرة تسهم، بشكل ما في تقوية مستويات الإبلاغ و مجمل البلاغات. إنه نوع من الكتابة الجماعية التي تستحضر الأجناس الأخرى في سياقات عينية لها مسوغات وظيفية ، أهمها ظهور المجاورات والتماسات والتماثلات بين نص وآخر.لذا تصبح الاستعانة بمختلف الأجناس تقنية ممكنة تلغي الحدود الصنمية.

ملخص مداخلة أ/د.عبد القادر سلاّمي


الخطاب القصصي في الجزائر: من جلد الذّات  إلى إثبات الحضور
-قراءة في  مجموعة " اللعنة عليكم جميعا"للسعيد بوطاجين-

أ/د.عبد القادر سلاّمي
قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب واللغات
جامعة تلمسان

ملخص:
انقسمت مجموعة" اللعنة عليكم جميعاً"للسعيد بوطاجين"  إلى ثماني قصص تتراوح بين الطول و القصر. فأطول قصة فيها هي "ظلّ الرّوح" ثم تلحقها "قصة ذئب كان سويّا" ، ثم تليها "من فضائح عبد الجيب" و" حدّ الحد"ّ ثم "37 فبراير" و "علامة تعجب خالدة"," وللضفادع حكمة"، فقصة"فصل أخير من إنجيل متّى"، وهي أقصرها.

هذا، وتلتزم المداخلة الموالية  مبدأ القراءة في مدلولها العام  كونها تكشف عمّا في الأثر الأدبي من مُدركات محدّدة، وهي بذلك تعملُ على فكّ بعض رموزها والوقوف على  صورة المثقّف الجزائري  من حيث إيجابياته وسلبياته فيها كما تُسهمُ في التأويل، واضعين القارئ في فضاء القصص عبر ملخص يُجمل ما يمورُ فيها من أحداث، تعكس تحوّلات الخطاب القصصي في جزائر التسعينيات بامتياز.