الأحد، 1 مايو 2011

كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان - للروائي الحبيب السائح


كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان

الحبيب السائح
روائي
لم يسبق لنا أن ارتبكنا مثلما حدث لنا ذلك ونحن نحس قناعاتنا ويقينياتنا تهزها من جذورها حركاتٌ اجتماعية احتجاجية لم نتوقع هديرها بتلك الدرجة من المطْلبية التي لم تطرحها يوما كتابتنا؛ إلا تلميحاتٍ أو صورا للأوجاع أو استعارات للحنين.
لِم لَم نستشرف؟ وما الذي خرّب مجساتنا حتى لا نتحسس نبض واقعنا؟ كيف تظهر تلك الاحتجاجات صاعقة كتابتنا كلها؛ وكأنها هي أيضا إرث آل إلى المنظومة المتهرئة التي وجب تغييرها؟
لنقلْ، بلا خجل، إننا كنا مطمئنين إلى عالم أنشأناه من أنانيتنا ونرجسيتنا كبديل عن ضعف مقاومتنا لردات التغيرات العنيفة. لذلك وجدنا أنفسنا مسلوبي القدرة على قراءة ما جد.
من ثمة حيرتنا أمام إيجاد خطاب ملائم. لا بد أن يمر زمن قبل أن نستعيد السيطرة على ارتباكنا. وحينها قد نكتب عما وقع بصفته حدثا مابعدياً؛ لأننا لم نكن من الفاعلين المباشرين فيه. ولا بد أن تبكيتاً سيلازمنا خلال كتابتنا اللاحقة.
فمن المفروض أن يؤهّل التاريخُ الجيلَ، الذي ستظهر إسهاماته الإبداعية والفكرية كنتاج لما وقع، لأنْ يكون في انسجام مع ما سيكتبه عن ثورته. ولن يكون ذلك سوى مجرد إنصاف له. فهو وحده الجيل المؤهل لأن يبعث اللغة الجديدة التي تنتج الاستعارة الجديدة والمعنى الجديد؛ أي الخطاب المختلف مرحليا والمفارق نموذجا.
وكم سيكون أثر ذلك وازناً إذا ما انتهت الثورة الجديدة إلى الخطوة الأولى في إحداث التحولات الجذرية المنتظرة. فثورة من أجل الديمقراطية ليست هي بناء ديمقراطية، في ظل دولة القانون والحق والعدل، نظرا إلى المدة الزمنية التي يتطلبها ذلك البناء.
فقليل منا، بالتأكيد، من سيتمثّل التغيّر. وسيجد الكثير منا أنفسهم عاجزين عن إعادة صياغة مشروع كتابتهم بناء على الأسئلة الجديدة. حدث ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي مع خطاب زال تماما بانهيار المشروع الاجتماعي الذي كان يحمله. وللأسف، لم يَخْلفه غيره البديل والأرقى. فراحت كتابتنا إلى التشرذم؛ تعبيرا عن الضياع الذي أعقب. واستمرت عليه إلى بداية هذه العشرية الثانية من هذا القرن غير قادرة على إنتاج خطاب لها موسوم بخصوصيتها؛ برغم جميع النوايا المعبَّر عنها، في هذا النص أو ذاك، عند هذا الكاتب أو ذاك، من هذا الجيل أو ذاك.
يمكن الجزم بأن كل شيء لن يكون كما كانت عليه علاقتنا مع الكتابة. ذلك أن تحولا بدأ يتشكل في مزاجنا؛ نظرا إلى انثيال الأسئلة الوجودية الطارئة. لا بد أن دلالات جديدة تنتظر أن تتلبس بها كتابتنا عن الحياة والموت والحب والجسد والوطن والتاريخ والدين والسياسة والأمكنة. فهل سنملك لها النفَس والإرادة والخيال لنؤسس بها خطاب حداثتنا؟     
فبأي لغة، بأي تكنيك، وبأي حبكة، ننشئ ما صارت النار ترمز إليه بعد أن أخرجها إنسان عربي عن وظائفها السابقة كلها وعن طقَسيّتها إلى هذه الوظيفة الجديدة: التحافها لإحراق اليأس المزمن في الذات؟
يا للدلالة التراجيدية التي حفرها البوعزيزي في رخامة تاريخنا!
ستتبدل الكلمات غيرَ الكلمات وملامح شخوص رواياتنا ونفسياتهم ومصائرهم، التي لن يكون في وسعها إلا أن تبلغ الذروة الدرامية؛ علها تلامس مشهدية شاب عربي في مظاهرة احتجاج من أجل حريته يتهاوى لرصاصة تستقر في قلبه.
«ولكن، من أين لنصنا الروائي بِحبْل سُري ـ كنا قطعناه بأنياب خيباتنا ـ يتغذي بواسطته من هذا الواقع الذي جدَّ "فجأة" بفداحة ذاك الغضب والإصرار والشك؟ واقع، لا محالة، سيؤجج أحلامنا. فإن ما قُوّض فينا كان من الجسامة بحيث يحتاج إلى زمن أعمارنا لإعادة ترميمه؟
«فما الذي نُخيّله، إذاً، من حياة أصبح تعبيرها المأسَوِي، عن كسر قيد المهانة، أقوى من كل تخييل؟ وأي حوارية بعد اليوم بين الأنا والآخر، تناصاتٍ، أو مقابساتٍ (بتحديد السعيد بوطاجين)؟
«وما ذا ستكون عليه مقاربات النقد بعد انهيار جدار "الحيادية" بدعوى "العلم"؛ وكأن العلوم والمعارف الإنسانية ليست هي مفاتيح أبواب عوالم الإنسان الذي ينتج الأدب ويستهلكه؟ وأي المناهج سيعاد توظيفها لتتوافق مع القراءات التي تؤوِّل الخطابات الجديدة التي أخذ الواقع الجديد يفرزها؟
«كل شيء سيهاجر. كل شيء سيكون تغيّر إذاً. وحينها، لا بد أن لغتَنا ـ جميع لغاتنا ـ العادية ستُمْسي قاصرة عن تمسية ما يتحوّل، عاجزة عن نقله من محسوسه كما من مجرده إلى درجة استيعابه؛ إن هي ظلت على تحفُّظها تجاه أشكال الرقابة كلها. إنها الحال التي قد تعيشها كتابتنا إن ترددت في إعادة قراءة نفسها على ضوء النار الجديدة.
«ها هي الحركية أتت من حيث لم يعلم المثقفون والكتاب. وها هم يستيقظون على دهشتهم فيحاولُونَ فهْم ما وقع. وها هم سيغدون متأهبين إلى النزول من أبراج أوهامهم ليأخذوا من شعوبهم شرارة دلالة الكتابة عن العدالة والحرية والديمقراطية.
«وها هو سراب العدمية، الذي كانت كتابَاتُنا دخلته لاجئة من اغترابها اليومي تحت قهر السياسي، ينجلي عن واقع التهمت فيه نار الانعتاق آخر جدار كان يسمى الخوف.
«ولأن التاريخ، بفضل وسائط الاتصالات الرقمية، صار ينْكتب تزامنا مع وقائعه، فإن الرواية ستحل محله؛ لأنها ستتكرس كفعل مَابَعديٌّ. وهنا سنوحٌ باهر للسرد الروائي الجزائري، والعربي بالتأكيد، أن يعيد تَحيين نفسه لاستيعاب الثورة الجديدة.»*؛ لأن كل شيء في خطاباتنا لن يكون كما كان.
ـــــــــــــــ
*  ما بين ظفرين مقتطفات من مقالة لي نشرت في ملحق "الأثر"، جريدة الجزائر نيوز، يوم 08 فيفري 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق