الأحد، 1 مايو 2011

الكتابة بما تبقى بالذاكرة.. عبدالوهاب بن منصور



الكتابة بما تبقى بالذاكرة..
  عبدالوهاب بن منصور

ليس من السهل ولا الممكن أن أسترجع كل حدث. فطفولتي الأولى لا أذكر منها إلاّ جامع القرية الصغير والفقيه وليلة الرحيل.
فلا أحد يمكنه أن ينسى من عَلّمّه الحرف الأول حتى وإن ارتبط ذلك بقساوة عود الزبوج والفلقة وقساوة الطقس ببرودته وحرارته. فقيها أصير يحفظ كلام الله، نلك كانت أمنية الجدّة وهي تجرني إلى لحد جدي الذي لم أعرفه لأقرأ ما أحفظ.. لكن أبي كان يراني قاضيا ليمتلك قليلا من سلطة الأمر والنهي لكشف موت أبيه وعمه و..و..، أمّا أمي فلم تنظر إلي إلاّ طبيبا يطارد لعنة موت أبنائها الذكور دون الإناث..
بين الأمنيات الثلاث كان الموت يرافقني. يطاردني في باب تازة القرية الصغيرة المطلة على ندرومة من جهتها الشمالية ووجدة المغربية من جهتها الغربية، أما جنوبا وشرقا فجبال تحجب الرؤية. والسؤال عمّ وراءها، كان يفتح شهية قول وترديد الأساطير. لكن السؤال ظل معلقا إلى غاية ليلة الرحيل.
عائدان من المقبرة، أنا وجدتي، تتوقف سيارة القايد منصوري البيضاء. لا يكلف نفسه عناء التحية أو النزول. يمنح جدتي تلغرافا. تسأله عن فحواه، فيجيبها ببرودة لم أنسها بعد: ولدك العربي مات.
تسير السيارة في اتجاه مغنية غير مبالية. اظل جاثما على جسد جدتي الملقى على الرصيف من هول الصدمة. وقتها أدركت أن الموت مدركي. فكان السؤال وجوديا: كيف أقاومه؟؟.
في أربيعية عمّي يقرر أبي الرحيل من باب تازة إلى ندرومة وليس إلى مغنية مثلما جرت العادة عند أهل القرية. يقول مدافعا عن رأيه: أرض الله واسعة.. وهذه (يقصد باب تازة) لم أر فيها غير الشقاء والحزن ورحيل كل الأحباب.. وهذا (مشيرا نحوي) لا أريده أن يظل هنا ينتظر أجله.
في شاحنة بيضاء من نوع جي آ كا (JAK) ركبت بين السائق وأبي. اعتقدت لحظتها أني تركت الموت ورائي. آمنت بالخلود. لكن...
حين توقفت الشاحنة اكتشفت أن بيتنا الجديد يجاور مقبرة. مقبرة اليهود. صارت المقبرة ساحة لعبي ومكاني المفضل الذي أقضي فيه جل وقتي. عاشرت الموتى وجعلت من أضرحتهم الرخامية أَسٍرّة لنومي وسهري. وكان ضريح السيّد، كما كان يسميه أطفال الحيّ، مكتبا أدخله كلّ مساء، فأشعل شمعة من تلك الشموع التي تتركها النساء الزائرات له طلبا للأولاد أو العوانس طلبا للزواج، فأنجز تماريني المدرسية أو أقرأ ما وقع بيدي من كتب.
لا أنكر أن ما كان يعذبني وقتها عدم قدرتي على قراءة ما كان مكتوبا بالحروف العبرية على الشواهد. فرحت في لعبة صبيانية، أو هكذا تخيلتها، أقرأ أو بالأخرى أتخيل نصا لكل شاهد، حتى اعتقد أصدقائي أني فعلا أقرأ العبرية، واعتقدوا أن جنيا يهوديا سكنني.
كنت في السنة الرابعة ابتدائي، أي عمري 10 سنوات، حين أوقفتني جدتي أمام ضريح السّيد وقالت إقرأ ما هو مكتوب على الشاهد. فقرأت بكل هدوء: هنا ينام الشيخ السّيد يبارك زواره.. صرخت جدتي وبسملت. لقد صدقت أن جنيا يهوديا يسكنني. وبدأت رحلتي مع الفقهاء والزوايا لطرد الجني.
لا أنكر أني حملت تحت إبطي الأيمن حرزا غُلّف بالرصاص كي لا يتلف أكثر من خمس سنوات. كما أني نمت في أضرحة الأولياء كثيرا، وعرفت طقوس الكيّ والرقية وإبطال مفعول السحر، و..و.. حتى صدقت أنا الآخر أني مسكون.
وصار ضريح السيّد مكتب كاتب عمومي لمن أراد أن يكتب رسالة حب أو غرام.
عفوا، قبل ذلك نسيت أن أبي اكترى محلا تجاريا صغيرا، فكان يجلسني كل يوم خميس، أي يوم السوق الأسبوعية، على كرسي خشبي ويضع امامي طاولة صغيرة فأقرأ رسائل الزبائن وأرد عليها، ويمنعني أن أقبض شيئا منهم أو أن أفشي أسرار ما أقرأ أو ما أكتب. في الأيام الأخر أجلس في ضريح السيد أكتب رسائل العشاق وبالمقابل. وهي الحرفة التي امتهنتها حتى بعد أن رحلت لتلمسان.
 مرة أخرى عفوا، قبل تلمسان، أحب أن أقول أني كتبت الشعر، أو ما اعتقدت وقتها أنه شعر، متغزلا بحب فتاة كانت معي في المتوسطة، لكني صدمت حين أدركت أن الفتاة لا تعيرني اهتماما.. فما عدت للشعر معتقدا أن ما كتبته لم يؤثر فيها ولم يمارس سلطة الإقناع.. إقناعها بحبي.. فرحت منطويا على نفسي أفرأ كتب القصص والروايات وأحلم..
في تلمسان، كما في ندرومة، يشدني تاريخ المدينة وجمال نسائها. بين مكتبة الحزب، كما كانت تسمى ومكتبة المركز الثقافي الفرنسي كنت أتصيد العشيقات. عشيقات يقرأن ويناقشن. فقرأت كثيرا لأجلهن.. ولأجلهن أحببت أن أكون الإستثناء والمختلف. كثرت اهتماماتي فبعد الرياضة، وكنت لاعبا مميزا في كرة القدم وحارسا لكرة اليد ولجت عالم المسرح، فكتبت والحقيقة هي نقلت مسرحيات فكاهية أو لنقل بلغة وقتذاك تمثيليات ومثلت.. لكن الاستثناء والمختلف كان ينقصه شيء..
باختصار، قدت إضرابات عن الطعام بثانوية بن زرجب لتحسين ظروف الإقامة والمأكل للداخليين، فصرت ممثل الطلبة ومحرضهم..
في ربيع 82، قامت مظاهرات بتلمسان وبأغلب ولايات الجزائر احتجاجا على ما عرف وقتها بنسبة النجاح في البكالوريا، ودامت أكثر من أسبوع عاد بعدها الطلبة إلى الدراسة.. لكن الاستثناء والمختلف صار محرضا خطيرا مطلوبا من أجهزة الأمن..
كان لزاما علي أن أهرب. لكن إلى أين؟. فلم أجد إلا امرأة عشت رفقتها ما يقارب السنة في ماخور. ولكم أن تتخيلوا ذلك..
لا أنكر أني كرهت النظام كرهي لرفقاء استغلوا جهلي  وحماسي.
وبعد أن كرهت حياة المجون، بحثت عن نفسي. عن بدويتي الضائعة بين شوارع تلمسان. عدت إلى ندرومة ولم أحقق الأمنيات الثلاث، لكني اعتقدت أني سأحقق أمنيتي. فانخرطت في جماعة الإخوان.
خوانجي. لم أتخيل نفسي كذلك. فلم يطل مفامي عندهم رغم أني صرت محدثهم. تصادمت معهم كثيرا حول الموسيقى والمسرح والأدب عموما.
في جانفي 91، أخرج هاربا من قسنطينة بعد مشاركتي في ملتقى أدبي. لم تعجب المنظمين قصصي فأحلوا دمي. وفي نفس السنة يتكرر نفس الموقف في الجزائر العاصمة. فأعود إلى ندرومة وأنعزل. أنعزل بجسدي. ليس خوفا من الموت، ولكن لا أحب أن يذهب دمي هباءا. أشهر بعد الحادثتين تمنحني الجاحظية الجائزة الأولى عن قصة بصمات.. المدينة.. الحلم..
في سنة 93 أتحصل على الجائزة الأولى عن الشروق العربي، عن قصة في ضيافة إبليس. وهو نفس العنوان الذي سأختاره لمجموعتي القصصية والتي ستصدر سنة بعد ذلك عن قصر الثقافة والفنون بوهران. كان الإصدار تحديا بالدرجة الأولى.
خلال هذه السنوات سأربط مع وهران علاقة خاصة. حميمية، لكن الاغتيال المفاجئ لصديقي بختي بن عودة سيضطرني للانعزال بجسدي من جديد، بعد أن كنت قد بدأت كتابة رواية قضاة الشرف بمنزله بحي سان شارل ذات ليلة ممطرة. الرواية التي ستأخد منعطفا غير ما كنت أتصوره بعد الاغتيال. والتي صدرت عن اتحاد الكتاب في ديسمبر 2001 رغم أني انهيت كتابتها في سنة 96، والتي ترجمت سنة بعد ذلك إلى الفرنسية ثم ترجم معهد غوته الألماني مقاطع منها في كراسات ليقدمها للتعريف بالأدب الجزائري خلال معرض الكتاب الدولي لفرانكفورت سنة 2003. 
في فيفري 2006 أصدرت رواية فصوص التيه. وهي الرواية التي أرهقتني كثيرا، لأني أردت أن أقدم عملا متميزا. عمل يجمع بين القاموس والفضاء الصوفي. فكانت رواية المدينة/ ندرومة بتاريخها الشفوي والمكتوب، وطقوسها المقدسة والمدنسة..
هل قلت عن حياتي كل شيء؟.
لا أظن ذلك. فما خفي كان أعظم.
وهل ما كتبته إلى حدّ الآن يعبر عمّ عشته وما رأيته أو على الأقل يذكره؟.
إن الكتابة تحاول دوما تبرير وجودها، فتحاول ملء ما قد يبدو فراغا وتقدّم صورة قد أنشأتها من الواقع بعد تزييفه وتحريفه أو حتّى محوه. فالكتابة، وهي الصّورة المُنشَأة من أصل محكوم بالتغير ثم الزوال، ليست حالة، كما يرى كثيرون، إنّما هي ميثاق، أو تراض حسب بارت، بين تذكر وحرية أو بتعبير أدق لحظة حرية. فهل الكتابة كما الحرية لحظة؟. الحرية هي لحظة الاختيار. اختيار نوع الكتابة. وبعد.. إنّ سلطة المرجع والمجتمع(أو الواقع الاجتماعي) هي التي تحدد بشكل أو بآخر كيفية الكتابة وما تحويه.
فالمرجع، أوالمرجعية المعرفية، هو المرتكز الحيوي الذي يدعم الكتابة أو يكون الدافع الأساسي أو المحرض لعملية الكتابة التي يُقصد من ورائها إنتاج رؤية معرفية أو فنية معينة. فالمرجع هو مجموعة القيم والمفاهيم الفكرية والعلاقات الاجتماعية الثقافية والنفسية..التي تشكل الهوية المعرفية للكتابة. إنّ هذه القيم والمفاهيم والعلاقات، هي التي تؤثر كأداة معرفية في تشكيل الكتابة، وبعضها له ارتباط وثيق بالواقع الاجتماعي للكاتب/ مُنتج الكتابة/. واقع يساهم ويؤثر في رؤى الكاتب ويحدد خلفيته الذهنية وهويته المعرفية. فالكاتب مهما حاول تحرير كتاباته من كلّ سلطة، فإنّه يظل أسير، كما يرى بارت، كتابات الآخرين وحتّى كتاباته.
فالكتابة أثر يتعذر محوه لها سلطة المقاومة. مقاومة الزمن وتقادمه. مقاومة النّسيان بكل معانيه. ففكرة الحلاّج (القرن الرابع الهجري) متداولة حتّى اليوم، فلم يمنع صلبه من محوها، وتبنّى الكثيرون أفكار المعرّي رغم عزلته وخلوته، وبن رشد يعيش بيننا بعقلانيته رغم حرق كتبه..
ولأنّ الكتابة لها القدرة على الثبات والاستمرارية، فتصحيح الأفكار أو تغييرها (الثابتة والمستمرة كتابة)، لا يتمّ بسلطة غير سلطة الكتابة. سلطة موازية. مضادّة.
لكن محاولة نقل الواقع وتصويره تنتج نصّا مشوها ليس هو الواقع وليس نسخة [طبق الأصل] منه. فالمرآة تعكس صورة، فهي ليست واقعا [حقيقة]  وليست خلقا. والروائي هو من كسّر المرآة [الأصل] شظايا ثمّ قام بتشكيلها وفق الشظايا المتوفرة. إنّ المرآة [المشكلة] هي واقع جديد ومختلف رغم محاولات التشابه والتقابل والمقارنة.
فالكتابة الروائية أو القصصية، على الأقل بالنسبة لي، ليست إعادة إنتاج الواقع، إنّما هي ولوج لعبة [جميلة] بين الواقع والتخييل. لعبة فنّ الكذب وتزييف الحقيقة وتخطي عتبة الخوف. الخوف من الموت. هي كتابة في الظلام وخارج النموذج.
إنها كتابة بكل بساطة مقاومة الموت. أو أقوى من الموت مثاما قال ستاندال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق